لا يعد عام 1948 عام النكبة الفلسطينية فقط بل هو عام النكبة العربية والإسلامية على حد سواء، والذي تبعثر على إثره الفلسطينيون بين دول الشتات ومازالوا حتى يومنا هذا، وكان على من تبقى منهم في أرضه أن يكابد من بطش الكيان الصهيوني وحملاته العسكرية العنيفة، وأكثرها ضراوة ما يشهده قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى وقتنا هذا.

لم يختلف كثيراً ما يعانيه فلسطينيو قطاع غزة من بطش الكيان الصهيوني عما عاناه ويعانيه الفلسطينيون من بطش نظام الأسد، حتى نكاد نحتار إن كان خروجهم من فلسطين إلى مناطق سيطرة قوات النظام السوري هو درء لهم أم ابتلاء!!

فما يحدث في قطاع غزة الآن هو ذات ما حدث في سوريا بعد اندلاع الحراك الشعبي، فمشاهد المجازر والدمار وانتشال الضحايا وقصف، دور العبادة والمدارس وغيرهما من الأبنية الخدمية والمنازل والبنى التحتية، والمداهمات والاعتقال والنزوح والجوع وغيرهم الكثير من التفاصيل التي يصعب تعدادها هي ذاتها في سوريا وقطاع غزة.

وجاءت مجزرة الطحين التي وقعت في 29 شباط/ فبراير 2024 لتعيد إلى ذاكرتنا مجزرة ساحة الريجة في مخيم اليرموك في دمشق التي ارتكبتها قوات القيادة العامة الفلسطينية المدعومة من النظام السوري بحق أهالي المخيم في 23 آذار/ مارس 2014، وإن لم ترق لحجم الخسائر البشرية في مجزرة الطحين لكنها اعتمدت ذات المبدأ غير الإنساني باستغلال حاجة المدنيين الجوعى المحاصرين للمساعدات الإنسانية لقتلهم.

ومن هنا يجب أن نذكر أنفسنا بأن الفلسطينيين الذين هربوا إلى خارج دولتهم عموماً وإلى سوريا ولبنان خصوصاً قد استقروا في مجتمعات شبه مغلقة، ففي سوريا ورغم حصول الفلسطينيين على الحقوق المدنية كالمواطنين السوريين فقد تمركزوا إما داخل أحياء أطلق عليها اسم حي المخيم في مدن عدة كحمص وحماة ودرعا أو في مخيمات كمخيمي اليرموك والسبينة في دمشق ومخيم النيرب في حلب ومخيم الرمل في اللاذقية وغيرهم، ولم يختلف الأمر كثيراً في لبنان حيث مخيم برج البراجنة ومخيم مار إلياس في بيروت ومخيم عين الحلوة في صيدا ومخيم نهر البارد في طرابلس وغيرهم، إلا أن الفلسطينيين في لبنان لم يحصلوا على الحقوق المدنية والاجتماعية.

إن الهدف من تركيز الحديث عن الفلسطينيين المهجرين إلى سوريا ولبنان فقط، هو تسليط الضوء على وضعهم في عهد الأسد والابن، فمن المعروف أن لبنان قد خضع لسيطرة نظام حافظ الأسد وانتشرت قواته في أراضيه بحجة إنهاء الحرب الأهلية وذلك عبر شن عمليات عسكرية ضد الميليشيات الفلسطينية واليسارية، وبقيت هذه القوات منذ كانون الثاني/ يناير 1976 حتى نيسان/ إبريل 2005 وأحكمت قبضتها على مفاصل الدولة وباتت سلطة الأمر الواقع فيه، مما يحمّلها مسؤولية كافة الانتهاكات المرتكبة في لبنان خلال فترة وجوده.

ارتكبت القوات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي، خلال فترة الوصاية السورية على لبنان، مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا في أيلول/ سبتمبر 1982 بعد حصار استمر ثلاثة أشهر بحجة القضاء على مقاتلين فلسطينيين داخله وبهدف الضغط على الفلسطينيين لمغادرة لبنان، اقتحمت هذه القوات المخيم الذي كان خالياً من المقاتلين وقتلت قرابة 3 آلاف مدني وفق منظمات حقوقية فلسطينية تم قتلهم بالأسلحة البيضاء والرصاص ثم قامت القوات الإسرائيلية بتجريف المخيم.

ومن منا لم يسمع بمجزرة مخيم تل الزعتر التي شاركت بها قوات النظام السوري في عام 1976، والتي تعد أكبر مجزرة ارتكبتها هذه القوات بحق الفلسطينيين في أكبر مخيم لهم بلبنان في ذلك الوقت، فقد خضع المخيم الذي تبلغ مساحته قرابة 1 كيلومتر مربع ويقطنه قرابة 35 ألف (قرابة ثلثهم لبنانيون) لحصار من قبل قوات المارونية (اليمين المسيحي) بدعم من قوات النظام السوري لمدة 52 يوماً مع قطع للمياه والكهرباء ومنع دخول الغذاء مما أنهك أهالي المخيم من الجوع والعطش، إضافة إلى تعرضه للقصف من قبل قوات النظام السوري التي شاركت أيضاً في اقتحام المخيم وارتكاب المجازر وذبح المدنيين وبقر بطون الحوامل في 12 آب/ أغسطس 1976، وتشير الإحصائيات إلى أن قرابة 4000 مدني لقوا حتفهم في هذه المجزرة، وتهجّر من بقي من أهالي المخيم إلى مناطق مختلفة.

لقد مارست القوات السورية في لبنان انتهاكات جمة بحق اللبنانيين من مجازر وخطف على الهوية وقمع للحريات وإخفاء قسري للمئات الذين مازالوا حتى يومنا هذا مجهولي المصير وتشريد قسري، وكذلك كان حال الفلسطينيين هناك، ولا يمكننا إغفال تعرض بعض المخيمات للقصف من قبل قوات النظام السوري في بداية تدخلها كمخيم الحلوة وشاتيلا والمية مية.كما قضت الحرب الأهلية على ثلاثة مخيمات، وهي مخيم النبطية (جنوب لبنان، دمره الطيران الإسرائيلي عام 1974)، ومخيما تل الزعتر وجسر الباشا المتجاورين (في العاصمة بيروت، دمرته القوات المارونية بدعم من قوات النظام السوري في حزيران/ يونيو 1976).

في سوريا عانى الفلسطينيون ما عاناه السوريون دون تمييز لهم عن سواهم، فحي المخيم في حماة خضع للحصار في مجزرة 1982 ومورست بحقه انتهاكات مورست على أشقائهم السوريين، فاعتقل من اعتقل وعذب من عذب وقتل من قتل وأخفي من أخفي، ولم تكن أحوال الفلسطينيين في عصر بشار الأسد أفضل مما كانوا عليه في عصر أبيه، وخصوصاً عقب اندلاع الحراك الشعبي في آذار/ مارس 2011 الذي انخرط معظمهم فيه بجميع نواحيه حالهم كحال السوريين فلقوا ما لقوه من قتل واعتقال وإخفاء وحصار وتجويع وتشريد وسلب للممتلكات، حتى أنه ظهرت لهم صور بين صور قيصر المسربة. من الضروري الإضاءة على بعض الأسماء البارزة من الفلسطينيين الذين اعتقلهم النظام السوري فقضوا تحت التعذيب كالمصور نيراز مناد ومهندس البرمجيات باسل خرطبيل، أو اختفوا قسرياً كالصحفي مهند عمر والمفكر علي الشهابي، وهي ذات السياسة التي اتبعها مع السوريين وذلك باستهداف الطبقة المثقفة أو ذات التأثير البارز في المجتمع السوري باعتقالهم وتعذيبهم حتى الموت.

لقد مارست القوات السورية في لبنان انتهاكات جمة بحق اللبنانيين من مجازر وخطف على الهوية وقمع للحريات وإخفاء قسري للمئات الذين مازالوا حتى يومنا هذا مجهولي المصير وتشريد قسري، وكذلك كان حال الفلسطينيين هناك

تعرضت تجمعات الفلسطينيين في سوريا التي شارك قاطنوها في الحراك السوري لانتهاكات عدة، لكننا سنسلط الضوء على مخيم اليرموك وهو أكبر تجمع للفلسطينيين وأكثرها تعرضاً للانتهاكات حيث ارتكب النظام السوري وموالوه من الفصائل الفلسطينية انتهاكات واسعة فيها، كان أبرزها الحصار والمجازر ومن ثم التشريد القسري لتحقيق التغيير الديموغرافي. منتصف عام 2012 بدأت قوات النظام السوري حصارها للمخيم فكانت تحكم قبضتها عليه أحياناً فتغلق جميع مداخله وتفتح بعضها في أحيان أخرى، فكان انعدام الغذاء والماء والدواء أحد الأسلحة الأشد فتكاً بالفلسطينيين المحاصرين بالإضافة إلى عمليات القصف.

في 23 آذار/ مارس 2014 أُعلن عن وصول مساعدات إنسانية للمدنيين ولدى تجمعهم في ساحة الريجة قامت قوات القيادة العامة الفلسطينية المدعومة من النظام السوري بقصفهم بقذيفة هاون أسفرت عن مقتل مدنيين عدة وإصابة العشرات.

في منتصف عام 2015 أحكم تنظيم داعش سيطرته على المخيم مما فاقم من أزمة الفلسطينيين الخاضعين للتضييق من قبل كل من النظام السوري وتنظيم داعش واستمر الوضع على ما هو عليه حتى أيار/ مايو 2018 حين أعلن النظام السوري عن سيطرته على المخيم عقب اتفاق تسوية أفضى بخروج الفلسطينيين إلى حيث يشاؤون (إما مناطق سيطرة قوات النظام السوري بعد إبرامهم لتسوية أو شمال غرب سوريا) وتم نقل عناصر تنظيم داعش إلى السويداء ليتعرض المخيم عقب ذلك إلى عمليات نهب وتدمير ممنهج.

تسببت العمليات العسكرية واتفاقات التشريد القسري في عموم سوريا بنزوح آلاف الفلسطينيين من مخيماتهم كمخيم اليرموك وخان الشيح وحندرات إلى شمال غرب سوريا إلى جانب الفلسطينيين المهجرين عام 1948 الموجودين هناك من قبل، ويعتبر مخيمي دير البلوط والمحمدية المتجاورين في ريف حلب الأكثر اكتظاظاً بالفلسطينيين. يعاني المهجرون الفلسطينيون حالهم حال المهجرين السوريين من انخفاض حصص المساعدات الإنسانية وفرص العمل وغياب المرافق الخدمية إضافة للظروف المناخية القاسية صيفاً وشتاءً. لقد أجبرت الظروف القاسية في عموم سوريا الفلسطينيين إلى السعي للهجرة إلى أوربا، ومعظم هذه المساعي كانت عن طريق مراكب الموت فلقي العشرات منهم حتفهم غرقاً في البحر.

إن نظام الأسد الذي تغنّى بدعم الفلسطينيين في مقاومتهم للكيان الصهيوني وشجب دون خجل مجزرة الطحين هو ذات النظام الذي نكّل بالفلسطينيين وارتكب المجازر بحقهم، وربما لو علم الفلسطينيون ما سيصيبهم على يد الأسد “الشقيق” لآثروا البقاء في مجابهة الكيان الصهيوني العدو، لكن الاختيار بين الطرفين ليس سهلاً فهما خياران أحلاهما مرّ.

شارك هذه المادة مع أصدقائك