عملت منذ انطلاق الحراك الثوري في محافظة حماة، بداية نيسان 2011، على توثيق الشهداء والمعتقلين في المحافظة من داخل مدينة حماة والعمل على نشرها على أوسع نطاق ممكن وإيصالها للمنظمات الحقوقية المختصة بالشأن السوري، بالإضافة إلى عملي بالمجال الإعلامي برفقة فريق صغير من الناشطين كانوا يشاركون بالمظاهرات وينقلون لي مجريات الأمور لأقوم بنشرها أولاً بأول، وكحال بقية المحافظات الثائرة كان أهالي مدينة حماة يتظاهرون عقب خروجهم من المساجد بعد صلاة الظهر من كل يوم جمعة.
بداية كانت المظاهرات متفرقة في أنحاء المدينة خشية الملاحقات الأمنية، فمدينة حماة قد ذاقت ما ذاقته من البطش في ثمانينيات القرن الماضي، حتى أنه لم يكن من المتوقع أن تشارك في هذا الحراك، مرت أيام الجمع الأولى واشتعل الحماس في قلوب المتظاهرين وبدأ التخطيط لتجمع كافة المظاهرات في مظاهرة مركزية في ساحة العاصي “مركز المدينة”.
إنه يوم الجمعة 3 حزيران/ يونيو 2011 والتي أطلق عليها الناشطون تسمية “جمعة أطفال الحرية” كحال كل أيام الجمع في السنوات الأولى من الحراك الثوري، في ذلك اليوم كان الحماس والأمل بالوصول والتجمع في ساحة العاصي على أشده، وكانت المجريات على الأرض تبشّر بذلك، فتحرّك المتظاهرون الحاملين للورود من أربعة محاور رئيسة باتجاه الساحة، حتى باتت تحت مرمى نظرهم فغدَوا قاب قوسين أو أدنى منها. وكالمعتاد في مثل هذا اليوم كنت أتواصل من منزلي مع الناشطين الذين أعرفهم وأتزوّد منهم بالمعلومات لأقوم بنشرها على صفحة الفيسبوك المختصة بنقل أحداث حماة في ذلك الوقت، والتي أغلقتها إدارة الفيسبوك لاحقاً، وبينما كنت أتحدث إلى خالد وهو أحد الناشطين والذي كان يتوجه إلى الساحة من شارع العلمين بدأت أسمع أصوات إطلاق الرصاص ثم صرخات الشبّان وهتافاتهم لينقطع الاتصال فجأة معه، وباءت كافة محاولاتي بالاتصال به وبناشط ثان كان في منطقة الحاضر وآخر ثالث في شارع المرابط دون جدوى، لقد سمع معظم أهالي حماة حينها أصوات الرصاص الذي انهمر على المتظاهرين فجأة، ومضت ساعة من الزمن وكأني بها دهراً على هذه الحال ثم بدأت أخبار سقوط الشهداء تتوالى تباعاً، حتى بدأت أخشى أن جلّ من قصد ساحة العاصي قد قتل بدماء باردة ومن بينهم الناشطين الذين أتواصل معهم، مرت الساعات الأولى ثقالاً وأنا أحاول الحصول على تفاصيل ما يحدث وسط المدينة.
كحال كل يوم جمعة بدأت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية تنقل مجريات المظاهرات في المناطق الثائرة وتطرقت إلى وقوع مجزرة في مدينة حماة ونقلت المقاطع المصورة بعض ما يحدث في هذه المدينة المكلومة، تمكّنت لاحقاً بصعوبة من التواصل مع خالد الذي اكتفى بطمأنتي على أنه بخير وأن الشهداء أكثر مما يمكن أن يتصوره إنسان، ثم تمكنت لاحقاً من التواصل مع الناشطَين الآخرين. في ذلك اليوم غصت المشافي والنقاط الطبية بالشهداء والجرحى حتى أنها لم تعد قادرة على استيعاب العشرات بل المئات منهم، وتوفي بعض من كانت إصابتهم حرجة جراء عجز الكوادر الطبية عن متابعة أوضاعهم.
لقد كان هذا اليوم أحد أصعب الأيام التي عشتها على مدار سنوات الحراك الثوري في توثيقي للمجازر والقتلى، خاصة بعد توارد أنباء عن ما لا يقل عن ألف شهيد، لكنه كان عليّ كناشطة حقوقية أن لا أكتفي بالأعداد بل يجب الحصول على بيانات للشهداء وهذا الأمر كان في غاية الصعوبة في ظل هوْل هذه الجريمة، ولم أتمكّن بعد مضي أيام عدة إلا من توثيق 327 شهيداً وأكاد أجزم أن الحصيلة أكبر من ذلك، لكن وجود متظاهرين من خارج المدينة إضافة إلى قيام قوات النظام السوري بسحب بعض الجثامين والجرحى واعتقال من اعتقلت جعل من الصعب على الأهالي التيقن من وفاة أولادهم فلربما كانوا ممن اعتقلهم النظام وأخفاهم قسرياً داخل معتقلاته، وهناك من خشي من توثيق شهيده. يضاف إلى ما سبق أنباءٌ تواردت عن العثور على عشرات الجثامين في نهر العاصي قام النظام بسحبها ولم أتمكّن من الجزم بصحة الخبر أو لمن تعود هذه الجثامين في ظل غياب الأدلة، لقد كان يوماً ثقيلاً مليئاً بالحوادث على أهالي المدينة جميعاً.
من الصعوبة بمكان سرد جميع القصص التي تواردت عن ذلك اليوم، فقلّة هي العوائل التي لم تفقد أحداً خلاله، لكنني سأسرد إحداها وهي لعائلة مقيمة قريباً من ساحة العاصي خرج وحيدها رغماً عن أهله للتظاهر وحين بدأ صوت إطلاق الرصاص هرعت الأم مع بناتها إلى الشرفة علّها ترى ولدها، مرّ الكثير من الشبّان يحملون الجرحى والشهداء أسفل شرفتها ومن بينهم من يدفعون عربة بيع خضار عليها شاب مضرّج بدمائه، فقالت بأسى شديد “الله يصبر إمك” لكن الشبان دخلوا إلى المبنى ودُق الباب وتوضح أن الشهيد المسجّى هو وحيدها الذي لم تتعرف عليه لا من وجهه ولا من ثيابه حين مر أمامها، ولهول المفاجأة فقدت هذه الثكلى عقلها. كثيرة هي القصص في ذلك اليوم التي نكأت جراح أهالي المدينة التي لم تندمل، لكنّني أعتقد أنه لولا اندفاع شبان هذه المدينة وثورة الكثير منهم على ظلم لم يتمكنوا من صدّه سابقاً أو لعدم تمكنهم من الثأر ممّن قتل أباءهم وأجدادهم في تلك الحقبة التي لم يعاصرها معظمهم لما شاركت هذه المدينة في الحراك.
كعادته، حاول النظام السوري التملص من مسؤوليته عن هذه المجزرة وأن ما قام به لحماية عناصره نتيجة هجوم المتظاهرين عليهم، لكن طبيعة الإصابات التي لحقت بالمتظاهرين وأدت لوفاة المئات منهم إضافة إلى ما نجا من مقاطع مصورة ومقاطع مسربة لاحقاً لا يترك مجالاً للشك بأن القتل الذي مورس في ذلك اليوم هو قتل متعمد لمتظاهرين سلميين يحملون الأزهار.
لقد توهّم النظام السوري بأن توجيه ضربة بيد من حديد لأهالي مدينة حماة سيحيي الرعب الذي زرعه في قلوبهم في أحداث عام 1982، لكنه كان واهماً فقد أسفر غباؤه في التعامل مع الشعب عن غضب عارم لدى أهالي حماة وسوريا وحكومات الدول انسحبت على إثره قوات الأمن من المدينة وباتت تحت سيطرة أهالي المدينة وثوارها حتى اقتحمها بداية شهر رمضان، وقتل من قتل حتى استعاد سيطرته عليها وأخمد الحراك فيها.
رغم كل ما سبق، ما زال أهالي مدينة حماة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يحيون ذكرى هذه المجزرة حتى يومنا هذا.


الوسوم: جمعة أطفال الحرية، حماة، سمية الحداد، سوريا، مجزرة